اختلالات هيكلية:
لماذا شغلت تركيا قمة مؤشر “البؤس الاقتصادي”؟

اختلالات هيكلية:

لماذا شغلت تركيا قمة مؤشر “البؤس الاقتصادي”؟



يُنذر وصول تركيا إلى قمة مؤشر البؤس الاقتصادي، الذي أعده حزب الشعب الجمهوري التركي، بعد أن حققت أعلى نقطة في المؤشر في السنوات الأخيرة بمعدل 32.2 نقطة؛ بمزيدٍ من تفاقم الأوضاع المعيشية في البلاد، التي تعاني بالأساس من تحديات مالية ونقدية واسعة، ناهيك عن تصاعد معدلات البطالة والتضخم. ومن شأن الاستمرار في تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية أن يؤثر بشدة على سعادة المواطن التركي. فقد أشار التقرير، الذي أعدته المجموعة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري، في شهر أغسطس الجاري، إلى أن تركيا وصلت إلى أعلى نقطة في مؤشر البؤس. وقد شهدت الديون التركية، إلى جانب البطالة وارتفاع أسعار الغذاء، زيادات مستمرة على مدار الأعوام الماضية، كما يتوقع استمرار تضخمها في الأجل المنظور في المستقبل، الأمر الذي يضع الاقتصاد والأوضاع المعيشية للمواطن التركي أمام تحدٍ كبير، ويدفع بالبلاد نحو حافة البؤس.

عوامل ضاغطة

ثمة العديد من العوامل ذات العلاقة بقضية تفاقم البؤس في تركيا، والتي يتوقع أن تستمر خلال الفترة المقبلة، وقد تحمل في طياتها الكثير من المخاطر بالنسبة للاقتصاد التركي، ويمكن بيانها على النحو التالي:

1– حدة الأزمة الاقتصادية: تواجه تركيا مأزقًا اقتصاديًا حادًا مع ارتفاع كلفة المعيشة لمستويات غير مسبوقة في السنوات الماضية، بسبب تصاعد معدلات التضخم، وتزايد حجم المديونيات، ووصولها إلى مستويات قياسية. فبحسب وزارة الخزانة التركية، بلغ إجمالي الدين الخارجي لتركيا نحو 431 مليار دولار في نهاية شهر مارس 2020، ما بين ديون حكومية وديون شركات. كما أظهر تقرير حديث للبنك المركزي التركي ارتفاع قيمة القروض البنكية المتعثرة في القطاع المصرفي في البلاد إلى 570 مليار ليرة، وبما يعادل نحو 67 مليار دولار، بنهاية الربع الأول من عام 2021. وتَوَازَى ذلك مع تراجع سعر صرف الليرة، حيث فقدت نحو 17% من قيمتها منذ بداية العام الحالي لتصل إلى 8,58 ليرات للدولار بنهاية شهر مايو الماضي، مسجلة بذلك أدنى مستوى لها على الإطلاق، كمؤشر على مستوى الضغوط التي يعانيها الاقتصاد.

بلغ مؤشر البؤس في تركيا، وهو مجموع البطالة والتضخم (13.2٪ + 18.95٪)، أعلى نقطة في السنوات الأخيرة بـ 32.2، وبلغ المؤشر 30.73 في الشهر السابق.

وانعكست هذه الظروف على مختلف جوانب الحياة في تركيا، ووصلت تبعاتها إلى الحياة اليومية للأتراك، كشف عنها الارتفاع غير المسبوق في تكلفة المعيشة. وبحسب تقرير “مؤشر البؤس” الصادر عن حزب الشعب الجمهوري، يستمر التضخم وغلاء المعيشة في الارتفاع بشكل لا يمكن السيطرة عليه. ووفقًا للتقرير، ارتفع معدل التضخم إلى 1.8% في يوليو 2021، وهو أعلى معدل زيادة في أسعار المستهلك خلال السنوات العشرين الماضية. فيما وصل معدل التضخم السنوي إلى 18.95%، وهو يمثل معدل التضخم السنوي الأعلى في آخر 27 شهرًا.

على صعيد ذي شأن، كشفت بعض البيانات والمؤشرات الاقتصادية التي تضمنها تقرير “مؤشر البؤس” حجم المعاناة التي يعيشها الأتراك، والتي يتوقع زيادة وتيرتها في ظل المعطيات السلبية للمشهد الاقتصادي، فقد انخفض معدل التوظيف بمقدار 216 ألف شخص، كما انخفض عدد العاطلين عن العمل بمقدار 265 ألف شخص، فيما انخفضت القوة العاملة بمقدار 481 ألف شخص في مايو 2021 مقارنة بالشهر السابق. كما فقد -وفقًا لتقرير “مؤشر البؤس”- نحو 216 ألف شخص وظائفهم، مقابل 265 ألف شخص بحثوا عن عمل في مايو الماضي.

2– تنامي معدل البطالة: شهدت الأوضاع الاقتصادية في تركيا صعوبات جمة خلال السنوات الأخيرة، ورغم أن جانبًا من الأزمة يعود إلى التبعات الاقتصادية التي فرضها تفشي وباء كورونا، إلا أن ثمة خصوصية للحالة التركية التي تعاني ارتفاعًا غير مسبوق في مستويات البطالة على مدار الفترة الأخيرة. وتعمقت أزمة البطالة في البلاد وسط فشل حكومة العدالة والتنمية في تقديم حلول عملية.

وبينما تُشير البيانات الحكومية الصادرة عن جهاز الإحصاء التركي إلى أن تعداد البطالة في تركيا بلغ نحو 14%، أي بما يعادل نحو 4 ملايين و61 ألف شخص؛ فإن تقرير “مؤشر البؤس” يشير إلى أن معدل البطالة الحقيقي يصل إلى 27,4%، بما يعادل نحو 9,7 ملايين شخص، بمن فيهم أولئك الذين يعملون في أعمال مؤقتة ويبحثون عن وظيفة ليتمكنوا من العمل في وظائف طويلة الأمد، والعاطلون الذين لا يبحثون عن عمل لأنه ليس لديهم أمل في العثور على وظيفة، لكنهم جاهزون للعمل فورًا إذا وجدوا فرصة.

3– الإنفاق الاستهلاكي المرتفع: أدت الظروف الاستثنائية التي يشهدها الاقتصاد التركي منذ عدة سنوات، إلى تصاعد حدة الأزمة، وانعكست تحدياتها في حجم الإنفاق الكبير على شراء السلع الغذائية. ووفق بيانات تقرير “مؤشر البؤس”، فقد ارتفع الحد الأدنى من الإنفاق على الطعام للأسر التركية، حيث بلغت نسبة الزيادة السنوية لأسعار الطعام 24,92%، وأصبحت نفقات الغذاء تشكّل الجزء الأكبر من المصاريف التي يتعين على المستهلكين تخصيص القدر الأكبر من الأموال لها. بينما بلغت نسبة زيادة الأسعار السنوية في قطاع النقل نحو 24,6 في المائة، ويحتلّ قطاع النقل المرتبة الثانية في الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 15,49%. كما كشف التقرير عن زيادة هائلة في أسعار المُنتجات ومستلزمات الحياة اليومية الضرورية بنسبة 44,92%.

ويعكس حجم الإنفاق على الغذاء والمواصلات حجم الارتفاع الكبير في تكلفة المعيشة في تركيا في الوقت الراهن، وهو الأمر الذي ظهرت تداعياته في مستوى المعاناة التي تعيشها العديد من الفئات الاجتماعية في تركيا، بسبب ظروف التضخم، وارتفاع تكاليف المعيشة.

تأثيرات انتشارية

يُمكن حصر أهم التداعيات الناتجة عن تزايد المعطيات السلبية للأوضاع الاقتصادية التركية وفقًا لما كشف عنه تقرير مؤشر البؤس في المسارات التالية:

1- تزايد معدلات الفقر: انعكست الصعوبات المالية التي تواجه حكومة العدالة والتنمية وفشل الإجراءات التقليدية في التحايل على الأزمة الاقتصادية على المستويات المعيشية للأتراك. ووفقًا للمؤشرات التي كشف عنها تقرير صادر نهاية عام 2020 عن اتحاد نقابات العمال التركية، فقد وصل حد الفقر في البلاد إلى 8198 ليرة تركية، لعائلة مكونة من 4 أفراد، وأن تلك القيمة تشمل الغذاء والملبس والصحة والتعليم والمواصلات. وبحسب تقرير للبنك الدولي في مايو 2021 فقد ارتفع معدل الفقر في تركيا للعام الثاني على التوالي، ووصل إلى 12,2 في المائة عام 2020، بعد أن كان 10,.2% في 2019. كما أكد التقرير المعنون “المرصد الاقتصادي لتركيا: إيجاد طريق بين الأمواج”، “أن النساء والشباب والعمال ذوي المهارات المتدنية والعمال غير الرسميين ظلوا مستبعدين”.

ولم ينعكس ارتباك السياسة الاقتصادية على تصاعد معدلات الفقر في البلاد فحسب؛ بل ارتبط بهرولة نحو 2,1 مليون أسرة في محافظة إسطنبول وحدها بطلبات إعانة لرئاسة البلدية وفروعها. وبالتوازي مع ذلك، زادت حالات الانتحار لأسباب اقتصادية، وكشفت بيانات نشرها حزب الشعب الجمهوري المعارض في فبراير الماضي، عن ارتفاع معدلات الانتحار في البلاد بسبب الصعوبات المعيشية، حيث وصلت إلى نحو 38% في الفترة 2017-2019. وأضاف التقرير أنه في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2020 تجاوز عدد حالات الانتحار 150 حالة.

2- تصاعد الرغبة في الهجرة: سُجِّلت توجهات مرتفعة لدى شرائح واسعة من الأتراك، خاصة أوساط الشباب والطلبة وأصحاب المهن، رغبة كبيرة في مغادرة البلاد، وهذه الرغبة يمكن استقراؤها من خلال ما كشفه في أبريل الماضي مركز “أوراسيا” التركي المتخصص في دراسات الأبحاث واستطلاعات الرأي، حيث أشار إلى أن نحو 75% من الشباب في تركيا يرغبون بمغادرة البلاد للحصول على واقعٍ معيشي أفضل في الخارج، مقارنة بظروفهم الحالية التي يرفضون الاستمرار بها أو يرغبون في التخلّص منها بسرعة. كما شدد المركز على أن “90% من الطلبة يفكرون أيضًا بمغادرة الأراضي التركية إذا ما سنحت لهم الفرصة”. في المقابل، أشار استطلاع سابق أجرته شركة “متربول” التركية للأبحاث واستطلاعات الرأي في فبراير الماضي، إلى ارتفاع نسبة من يرغبون في العيش أو الدراسة بالخارج إلى 47,37%. ولا شك في أن هذه الرغبة في الهجرة ستتصاعد مع تزايد التدهور الاقتصادي، وصعود معدلات الفقر، ناهيك عن تأميم المجال العام وتراجع الحريات المدنية والديمقراطية.

ولم تقتصر مؤشرات زيادة معدلات الهجرة من تركيا خلال المرحلة المقبلة على ما سبق، فقد كشف عن ذلك تقرير وكالة الهجرة واللاجئين ومكتب دعم اللجوء الأوروبي الصادر في مطلع مارس 2021؛ حيث أشار إلى تقديم 15834 مواطنًا تركيًا طلبات للحصول على الحماية الدولية في دول الاتحاد الأوروبي خلال عام 2020، كما سجل الأتراك المرتبة الثالثة في عام 2019 بشأن طلبات اللجوء للاتحاد الأوروبي بعد السوريين والعراقيين.

3- ازدياد دعوات لإجراء انتخابات مبكرة: حيث إن تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية في البلاد، وتدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين الأتراك، إضافة إلى انهيار قيمة العملة التركية أمام الدولار، وزيادة البطالة، والفقر؛ قد يزيد من زخم دعوات المعارضة لإجراء انتخابات مبكرة. وتؤكد المعارضة التركية أن سوء الأحوال المجتمعية في البلاد لم يعد يرتبط فقط بحالة التردي الاقتصادي، وإنما يعود في جانب منه إلى سياسات القمع، ومصادرة الحريات، وتكريس الممارسات السلطوية لحزب العدالة والتنمية.

ووفقًا للمعارضة التركية، فقد وفرت التجاذبات السياسية بيئة خصبة لتعقّد الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الأزمات المعيشية، وكذلك عزوف المستثمرين الأجانب عن الدخول إلى الأسواق التركية. وتعتقد المعارضة التركية أن مستويات الفقر الكارثية في البلاد، وعدم قدرة النظام السياسي الحالي في تركيا على قيادة البلاد؛ باتت تستدعي تنظيم الانتخابات قبل موعدها المقرر في عام 2023.

مستقبل مأزوم

يُرجَّح أن يؤدي التقرير الصادر عن حزب الشعب الجمهوري حول مؤشرات البؤس في تركيا إلى مضاعفة الاستقطاب السياسي القائم في تركيا، فالنظام التركي يرجح أن يدفع بعدم دقة البيانات الواردة في التقرير، ويستخدم ورقة المؤامرة للتقليل من شأن التقرير، وخصوصًا أن حزب الشعب يُعد من أبرز القوى المعارضة للنظام، وكذلك يمثل تهديدًا للنفوذ السياسي للنظام، حتى إن بعض التقارير أشارت، في شهر يوليو الماضي، إلى انشقاق كبير في حزب العدالة والتنمية الحاكم. حيث أعلن “فاتح جنكيز”، أحد نواب حزب العدالة والتنمية عن مدينة موش، انضمامه إلى حزب الشعب الجمهوري إلى جانب 2500 من أعضاء الحزب.

احتلت تركيا المرتبة الرابعة بين أكثر الدول بؤسًا في مؤشر البؤس الاقتصادي العالمي، الصادر عن وكالة بلومبيرج، لعامي 2019 و2020، وذلك بعد كلٍّ من فنزويلا والأرجنتين وجنوب إفريقيا.

ولكن استمرار مراهنة النظام التركي على خطاب المؤامرة، وتجاهل معطيات الواقع؛ سيؤدي إلى مفاقمة الأوضاع الداخلية، وخصوصًا أن ما ورد في تقرير مؤشر البؤس، الصادر عن حزب الشعب الجمهوري، يتسق بصورة كبيرة مع تقارير دولية أخرى صدرت خلال السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، كشف مؤشر البؤس الاقتصادي العالمي لعامين متتالين (2019 و2020) الصادر عن وكالة بلومبيرج الاقتصادية، عن تزايد معدلات البؤس الاقتصادي في تركيا، حيث احتلت تركيا المرتبة الرابعة بين أكثر الدول بؤسًا.

ختامًا، وبعيدًا عن إشكالية الاستقطاب السياسي الداخلي، فإنه بات من المؤكد أن استمرار التحولات الدراماتيكية التي يعانيها الاقتصاد التركي قد تدفع نحو مزيد من تدهور الأوضاع المعيشية، لا سيما أن قطاعًا واسعًا من المواطنين الأتراك دخل تحت خط الفقر، بالنظر إلى تنامي معدلات البطالة والتضخم، ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة. كما أن الفشل في التعاطي مع التدهور الحادث في المؤشرات الاقتصادية، قد يؤدي إلى تفاقم الارتدادات السلبية على معيشة الأتراك.